الشَّاهينة والغراب
(قصّة كتبها المؤلّف لتلاميذه في الصفّ الخامس الابتدائيّ)
في أحد أحراج لبنان الوعرة، صخرةٌ جبّارة شاهقة، لا يستطيع أحد من الناس أو الحيوان تسلّقها أو الانحدار منها؛ وليس إلّا الطرْف بقادر على الوصول إلى وسطها، وهي تُطلّ على وادٍ سحيق ذي منحدرات صعبة وعرة المسالك؛ فارتأت إحدى الباشقات أو الشاهينات أن تتّخذها مأوى لها، وجعلت من أحد شقوقها أدحية للبيض والأفراخ؛ وكان يحيط بالأدحية بعض الشجرات النابتة في ثقوب الصخرة العاتية.
في أوائل الربيع باضت الشاهينة وأفرخت في ذلك المكان الحريز، وسُرَّت بفراخها الصغيرة، راجية أنّها، بعد قليل، ستقوى أجنحتها ويصير الفضاء كلّه موطنًا لها ومسْرحًا لطيرانها.
في ذات يوم خرجت الأمّ كعادتها تسعى للإتيان بالغذاء لصغارها، فاتّفق في تلك الأثناء، أن مرَّ بقرب عشّ البويشقات، غراب نحس، فعاين الأفراخ تتحرّك فيه، فاقترب منها، ولمَّا رآها عاجزة ضعيفة، سوّلت له نفسه الدنيئة، أن يلج الأدحية العزلاء، ويزدرد ما فيها من الطيور غير البالغة، دون مبالاة، بما قد يناله من سوء العاقبة؛ فانكبّ على الصغار يرشقها بمنقاره الحادّ، وهي تصيح مستغيثة، ولكن دون جدوى، فافترس بعضها ولم يقنع، بل تابع عمله الظالم الدالّ على الشراهة وقلّة الفهم؛ وفي تلك الدقيقة سُمع دويّ في الجوّ، فرأى الفلّاح القرويّ المراقب لتلك الحركة، الشَّاهينة الأمّ تشقّ الفضاء كالسهم، تحمل بين مخالبها غذاء للشواهين الصغار. وما أن رأت الغراب محتلًّا أدحيتها، وقد فعل ما فعل بعائلتها العزيزة، حتّى أخذت تزعق وتحوم حول الوكر بحركة غريبة مضطربة؛ ولكنّها لم تدخله لضيقه، ولأنّ الغراب وقف ببابه، واستعدَّ للقتال من دون أن يجرؤ على الخروج. فحامت الباشقة حول الأدحية عدّة حومات، وحلَّقت في الجوّ حتّى اختفت عن مرأى الغراب، ثمّ عادت بسرعة، وجثمت في أعلى الصخرة، دون أن يراها عدوَّها، وأخذت تتربّص به الدوائر؛ وبقيت هناك برهةً، حتّى ظنَّ الغراب أنّها هربت ونجت بنفسها خوفًا منه! حينئذ طار يريد النجاة، ولكنّ الشاهينة الموتورة، المتألّمة، انقضَّت عليه كالنسر، وأنشبت مخالبها في جناحيه، وأخذت تنقره في منقارها الحادّ نقدًا سريعًا شديدًا، وما تركته حتّى فتحت له في أعلى رأسه الأسود ثغرةً، ذهبت بدماغه الصغير، وتركته يهوي ويتدهور في الجوّ، وجمدت الشاهينة تراقبه حتّى وصل على الأرض مائتًا لا حراك فيه، فتركته وعادت إلى وكرها تتفقَّد أحوال صغارها التعساء، وتُنقذ ما تبقّى منها على قيد الحياة.
يوسف س. نويهض